كان الوقت مبكراً نوعاً ما على العمل عندما صحوت يوم أمس الخميس. ذهبت للكورنيش وأفطرت في الكوفي ربيبلك وقلت “آخذ لفه” قبل التوجه للمكتب. منظر البحر في النهار يروق لي جداً. وصلت حتى “دوّار النورس” وفوجئت هناك بزحام شديد. الحركة شبه متوقفه. عشرات الفضوليين الذين نراهم يتجمعون عند كل حادث سيارة أو حريق أراهم متجمعين هناك كذلك. لم أتوقف. فليس عندي فضول لأعرف ما جرى. بالتأكيد هناك قصة مأساوية، ولا أعتقد أنهم سيحتاجون لمساعدتي لأن هناك العشرات والعشرات غيري. إذن، فلأمضي في سبيلي. أصلاً ما أبغى “أنكد يومي”.
بعد صلاة الجمعة اليوم، تصفحت جريدة الوطن، فوجدت خبر بعنوان “الصرف يبتلع فتاة بكورنيش جدة”. بدأت في قراءة الخبر، فوجدته يتحدث عن التجمع الذي مررت بجانبه صباح يوم أمس.
لم يقل الخبر لنا إسمها، ولكن ما عرفناه أنها فتاة في بداية حياتها (18 عاماً). كانت مع والدها المسن وعائلتها يتناولون الإفطار على الكورنيش الساعة الثامنة صباحاً!!! هنا يجب أن أتوقف. أن ترى عائلة تتناول الإفطار على الكورنيش في ذلك الوقت المبكر، فهذا يوحي أنها عائلة “فلّه” و “وناسه”. ربما يكون والدهم عاد من صلاة الفجر وقال لهم “وش رايكم نفطر على الكورنيش؟”، أو ربما يكونون من خارج مدينة جده وأتوا ليأخذوا عمرة في مكة ثم أتوا جده يتمشون؟ أو ربما كانت هذه البنت وأهلها في زواج الليلة الماضية وسهروا حتى الصباح، وحتى يكملون يومهم “الفلّه” اقترحوا على والدهم أن يفطروا جميعاً على الكورنيش قبل العودة للنوم؟
أغلب ظني أنهم عائلة من خارج جده أتوا ليصطافوا في “جده غير” كما ضحكوا علينا بتسميتها. وسبب ترجيحي لهذا الرأي، هو أن الخبر يقول بأنها كانت تحمل كاميرا لتقوم بتصوير جمال البحر. أهل جده “تعودوا” على رؤية الكورنيش وأغلب من نراهم يصور هناك، هم من خارج جده.
يقول الخبر: “وكانت الفتاة تلتقط صوراً فوتجرافية للبحر، وهي تحاول تخطي المجرى المائي الذي يمتد لعدة أمتار في اتجاه البحر، والخالي من أي سياج على جانبيه، والذي تغطي بدايته مجموعة من الصخور وأغطية حديدية تخفي تحتها أنابيب الصرف الصحي الكبيرة.
وأوضح شهود عيان في الموقع أن الفتاة حاولت قطع المسافة بين الماء الملوث والشاطئ غير أنها لم تدرك عمق المياه التي كانت تعتقد أنها ضحلة فجرفتها إلى داخل البحر وابتلعتها بشكل سريع، وسط محاولة والدها لإنقاذها غير أنه فشل في ذلك.”
عندما عملنا مع قناة “بيئتي” الفضائية والمتخصصة في شؤون البيئة، تعرفت على الكثير من الكوارث البيئية المحيطة بجده والتي تمنيت أن لو لم أعرفها حتى أرتاح في مأكلي ومشربي. أحد هذه الكوارث هي “الصرف الصحي” ومخاطره على حياتنا كمواطنين.
أتذكر جيداً ذلك اليوم عندما كنت أجلس مع صديقي خبير بالبيئة في إجتماع صغير وأمامنا على الشاشة الكبيرة “عبر البروجيكتر” مدينة جده من خلال قوقل إيرث. وكان هذا الصديق يشرح لي وإثنان آخران مشاكل جده البيئية. كان يحرك خريطة جده الطبيعية في قوقل إيرث متنقلاً من كارثه بيئيه لأخرى حتى وصل لميدان النورس. وأشار إلى مصرف المجاري الذي لا يعرفه أغلب سكّان جده كما نراه في الصورة بالأسفل.
هنا ماتت تلك الفتاة... ماتت في نفس المجرى الذي رأيته في الشاشة ذلك اليوم!!!
ويح قلبي !!!
كانت تمشي وتصور مستمتعة بمنظر البحر وكلها ثقة أن مياه البحر ليست بعميقة. ولكن للأسف وقعت في المنخفض الذي تسبب فيه تصريف المجاري وغالباً أنها لم تكن تعرف السباحة فغرقت. حتى السابعة من مساء الأمس، لم يجدوا لها أثراً.
المضحك المبكي “أن رصيف الكورنيش المقابل لموقع الحادث وضعت فيه لوحة تحذيرية تشير إلى كون المنطقة محظورة للسباحة أو الصيد.” بحسب كلام جريدة الوطن. يضعون لوحة تنبيهية في الرصيف المقابل !!!
ما ذنب أن تموت هذه الفتاة بهذا الشكل وفي هذا المكان البالغ القذارة؟
من سمح بتصريف مياه الصرف الصحي بهذا الشكل الكارثي؟
لماذا لم توضع لوحات تشير إلى هذا المجرى المائي وأن “هذه المياه هي مياه صرف صحي”؟
لماذا لم يوضع حاجز حماية أو “شبك” حول هذا المجرى؟
لماذا تسمح الأمانة بوجود أكثر من 600 نقطة تصريف مياه صرف صحي على الكورنيش ناتجة عن مخلفات مياه المنتجعات والفنادق والمشاريع السياحية؟
لماذا سكت أنا واكتفيت بالحوقله عندما عرفت عن خطر هذا المجرى القذر بعد ما شرحه لنا ذلك الصديق؟
ماتت الفتاة بسبب ثقتها في أن “جده غير”!!!
ماتت الفتاة بسبب أنها كانت تسير بجانب الشاطيء فماذا يمكن أن يحصل؟
ماتت الفتاة بسبب سوء تخطيط، وبسبب إهمال الأمانة، وبسبب عدم تحرك كل من عرف بمثل هذه المخاطر “مثلي”.
ماتت الفتاة لأننا مجتمع جبان..
لأننا نخاف أن نشير لمكامن الخطأ..
لأننا نخاف أن نطالب بإصلاحها..
لأننا لا ندافع عن أبسط حقوقنا ولو كانت كجعل شواطيء البحر “آمنه” وإعلامنا بمكامن الخطر!
ماتت لأن أمانة جده وغيرها لا تقيم للمواطن وزناً ولا قيمة..
ماتت الفتاة لأننا مجتمع جبان ولا نطالب أصلاً بمحاسبة أمانة جده وغيرها.
من يعرف لدينا مسؤول قدم استقالته بسبب إهماله؟
من يعرف لدينا مسؤول تم محاكمته علناً بسبب إهماله أو فساده؟
لو حصلت مثل هذه الحالة في بلد “كافر”، ماذا تتوقعون أن يفعل الناس هناك؟ وماذا تتوقعون أن تفعل حكومتهم؟. بالتأكيد ستقوم الدنيا ولن تقعد. أما عندنا، فأستطيع أن أقسم أيماناً مغلظة أنه لن يعاقب فرد ولن تتحمل أمانة جده المسؤولية وستتهرب منها، وستموت قصة هذه الفتاة كما ماتت هي بدون أي إعتذار أو تبرير منطقي أو محاسبة وعقاب.
يقول شهود العيان “أن فرق الإنقاذ والآليات لم تصل للموقع إلا بعد مرور نحو 4 ساعات تقريبا”. رغم نفي الناطق الرسمي بقيادة حرس الحدود إلّا أنني أرجح صدق كلام الشاهد.
ماتت هذه الفتاة في مياه مجاري الصرف الصحي وكانت تعتقد واهمه أنها مياه البحر التي كانت تصوره، وأبوها المسن لا يقوى على مساعدتها وليس له إلّا أن يبكي ويبكي..
ماتت هذه الفتاة وربما كان الإفطار الذي خرجت مع أهلها ليأكلوه على كورنيش جده لازال على “السفره”، و “فنجان” الشاي حقها برد بعد أن تعبت أمّها من مناداتها “الشاي برد يا بنتي. تعالي اشربي الشاي”..
رحماك يا الله..
منقول:(