عندما قرأت عن الكتاب..سعيت للبحث عنه
ليقيني أن للحجاز هوية ساحرة ثرية قلما يوجد مثلها..
هوية ثرية ..أعمق من عبارة "الشيشة يا ام أيمن" التي يحاول البعض تسطيحها وحصر الهوية الحجازية في هذه العبارة.
مهد الإسلام؛ البحث عن الهوية الحجازية
الكتاب رسالة دكتوراة للكاتبة مي يماني وهي ابنة وزير البترول السابق محمد زكي يماني
الكتاب صدر باللغة الانجليزية وترجم إلى العربية .
تتحدث مي يماني في الكتاب عن ماتراه تهميش للحجازيين ومكانتهم رغم تفوقهم على سكان باقي المناطق ويظهر ذلك في وصفها للتباين الكبير في الأوضاع عند ضم الحجاز للدولة السعودية
حيث انه "في حين كان النجديون يتألفون بشكل رئيسي من القبائل والبدو والأميين غير المعرضين لأي تأثير أجنبي كان الحجاز يصدر الجرائد ويضم عددا من المكاتب العامة الكبيرة"
تستشهد يماني انه بعد ضم الحجاز للسعودية ..عصف التيار الوهابي المدعوم من الدولة السعودية بكل مايميز الحجاز..
من هوية منعكسة بطرق عباداتهم وهوية نخبوية نابعة من خلفية ثقافية وهوية ظاهرية بملابسهم واطعمتهم واداب الحديث .
وبعد انتهاء حكم الأشراف فقد الحجاز استقلاله واخذ يعاني من مشكلة في هويته واظهارها.
فرض الزي السعودي للنساء والرجال فرضا اجباريا ..منع الحجازيين من ممارسة طقوسهم الدينية "الصوفية" كما صورتها في الكتاب ..تاثر الحجاز اقتصاديا فخدمة الحجاج لم تعد مسؤولية المطوفين و التعليم في الحرم لم يعد بيد السادة او شيوخ المذاهب الاخرى .
سيطر النجديين على الدولة والمناصب الرئيسية الدينية والسياسية والثقافية وتم اقصاء الحجازيين. حيث ينظر لهم بنظرة دونية.
نتيجة ذلك ترك الكثير من الحجازيين المدينتين المقدستين وسكنوا مصر وماليزيا..واندونيسيا. أو رضخوا للتغير ظاهريا وحاولوا الحفاظ على هوية تورث جيلا بعد جيل.
وعلى الرغم من كل ذلك..جاهد الحجازيين على الحفاظ على ثقافتهم وهويتهم من الانقراض...من خلال ممارستها ولو على شكل خاص داخل نطاق العائلة..
واستعرضت الكاتبة أغلب هذه العادات التي حافظ عليها الحجازيين
كطقوس الولادة والمولد النبوي و طقوس الزواج والوفاة الاثبات الأخير للهوية .
تذكر المؤلفة أنه مؤخرا هناك اتجاه عند "العوائل" وهي ماتصفهم بالنخبة الحجازية إلى "التحجيز"..
والتحجيز هو مصطلح يقابل مصطلح سعودة..
ويتم التحجيز عن طريق العودة للعادات التي كادت ان تنقرض..كالموالد او التلقين مثلا عند الموت..التمييز النخبوي بالملبس او الماكولات أو طريقة الحديث وادابه.
ملاحظاتي على الكتاب:
1- الكتاب ورغم انه رسالة دكتوراة إلا أنه يفتقر إلى أبجديات البحث العلمي..فلا مراجع واضحة في بداية الكتاب تذكر المؤلفة أن مصدرها الرئيسي هي امرآة مسنة يزيد عمرها عن المائة سنة وشهدت دخول الملك عبد العزيز للحجاز.
2- انها أظهرت الحجاز موطن للصوفية..وهذه مغالطة كبيرة رغم انتشاره في بعض الأوساط.
3- الكتاب يظهر أنه يمثل وجهة نظر الكاتبة والمحيط بها..لذلك قد يقرأه البعض من الحجازيين ويجدون انه لا يمثلهم من قريب أو بعيد.
4- الكتاب يفتقر للأسماء..لا توجد أي أسماء لعوائل أو أشخاص حجازيين ..هو فقط حديث مبهم عن "عوائل" وأشخاص حجازيين .
5- الكتاب يفتقر إلى توثيق الفترة الزمنية ..فهي تتحدث عن ان الحجازي يفعل ويميل لفعل ووو..ولكن لم تذكر حديثها هذا يخص أي فترة زمنية..وهذا ما أفقد الكتاب قيمته.
6- رغم أنها تتحدث عن نظرة عنصرية تجاه الحجازيين من النجديين نجد أنها مارست نفس النظرة العنصرية البغيضة في حديثها..وتقليلها من النجديين وكأنهم أهل بادية لا يعرفوا كيف يلبسوا أو ياكلوا أو يتحدثوا
7- همشت الكثير من أهل الحجاز وانحصر حديثها عن الحجازيين في "العوائل" وهو تعبير مبهم..تزعم أنه معروف وهو مسمى يطلق على عدد من العوائل النخبوية التي تحدد ثقافة الحجاز..ولفظ النخبوية يشمل المال كركيزة اساسية .
8- توسعت في الحديث عن الهوية الحجازية..حتى بدت الهوية مطاطية..فعلامة السجود على الجبين والام الركبة من السجود والترحيب بالضيوف هي عادات يشترك فيها الكثير..لا تصف هوية محددة.
9- شددت على الحفاظ على التقاليد والعادات الحجازية كطريقة اعتراض صامتة على تمييع الهوية وكأنه أمر اختص به أهل الحجاز..ولو كلفت نفسها وتابعت تاريخ المناطق الأخرى التي أشغلها التنقيص من نجد عن متابعتها..لرأت أن أهل الجنوب متمسكون بعاداتهم وأهل الشمال وأهل الشرقية..حيث أن هذه هي ميزة التعدد الثقافي في السعودية.
10- اهتمامها بالقشور جعلها تهمل الحديث عن الهوية الحقيقية الحجازية التي يفخر بها أهلها" لم تتحدث عن موروث ثقافي عن إنتاج معرفي عن صوالين أدبية عن تمازج وتسامح وتقبل للغريب قلّما نرى مثله.
11- اهملت الحديث عن قبائل الحجاز ماعدا الأشراف..ربما لأنهم كان من المستحيل تجاهلهم..حيث حديثها كان عن النخبة الحجازية اللاقبلية مقابل القبلية النجدية . وهذا طبعا افقدها الموضوعية
12- الكتاب به نفس عنصري بغيض لا يتفق مع ابجديات البحث العلمي...
بالطبع كتاب "مثير للجدل كهذا" قوبل باراء مختلفة..هنا رصد لبعض الاراء المضادة..
1-
الهوية الحجازية:
الدراسة ليست أنثروبولوجية نقية، وفي الوقت ذاته فنفسها التاريخي السياسي لايضفي عليها اعتبارات القراءة السياسية الواقعية حتى وصاحبتها أحد الوجوه المعروفة في الأوساط الإعلامية والأكاديمية، أما مقاربتها للواقع السياسي المعاصر ففيها من انفعالات الوجدان (الصوفي) وزخم العاطفة أضعاف ما فيها من السياسة، ذلك طبعا لاينفي أنها (أجادت) في توظيف مسألة ثقافية كالهوية توظيفا سياسيا قد يُؤجج مخيلة البعض أو يُلهب وجدانه لكنه لن يقدم تصورات عملية، فمثالية التنظير على اعتبار مثاليته ليست المحك بقدر ما هو امكانياته الواقعية. هذا ينطبق بشكل أو بآخر على الوجهة المعارضة لطروحات مي يماني في كتابها الجديد "مهد الاسلام: البحث عن الهوية الحجازية"، فلا قيمة ولا نُبل في تشكيك البعض في انتماءات من يخالفهم الرأي أو في ولائه الوطني، والذين تناولوها ساخطين من منطلقات حماسية ينسون ان مسألة الاختلاف والتنوع الثقافي مقابل التجانس الخادع أو القسري أصبحت قضية محسومة في عالم اليوم. طبعا سيدخل في خانة الشغب لا العاطفة لو سألتُ هنا بحسن نية: هل كانت السيدة يماني ستؤلف كتابها المثير وتهديه إلى: " أبي أحمد زكي يماني الساكن دائما في قلبي" حين كان يسكن في منصب وزير البترول لأكثر من عشرين عاما، الجواب معروف بداهة، أما المراد فهو أن كل الكيانات الممتدة جغرافيا قديما وحديثا عرفت اشكالات الهويات الفرعية، كما أن القول بالهوية المختلفة للحجاز أو الإيمان بتمدين الحجازيين وتحضرهم وغناهم الثقافي مقابلة بالنجديين قضية لامراء فيها ، لكن بيت القصيد هو كون يماني عمدت إلى توظيف هذه القضية سياسيا مما أوقعها في مزالق عديدة أولها النبرة الإقليمية والخطاب المتعنصر.
فمن الواضح أن ليماني وجهة نظر سياسية وهذا حقها، لكن هل كان النزوع نحو الإقليمية هو الخيار الأمثل للتعبير عن وجهة النظر هذه؟! فرغم كل مجهودات أساتذة أكسفورد فإن تفكير يماني ظل محتفظا ببنيته العروبية السجالية، فهي لم تكن قادرة على رؤية تميز الحجازي ثقافيا إلا من خلال وضعه في ثنائية يكون قطبها الآخر النجدي الذي لايستمتع بالموسيقى ولايحتفل بالمولد النبوي ويأكل بيده مقابلة بمن يستمتع ويحتفل ويستخدم الشوكة والسكين منذ الخمسينيات، لابأس مع أن الأنثربولوجيين الغربيين الذين درسوا قبائل الزولو لم يستحضروا
كيف نتصرف نحن في لندن وكيف يتصرفون هم في الأحراش)!، ولم تكن النظرة الدونية للثقافات الأخرى في الرؤية الاستشراقية خليقة بمستشرقي الصف الأول، لكن هذه النغمة التي تُصنم الهوية الفرعية وتُعلي من تفوق أفرادها العرقي أو الثقافي مقابل الحط من شأن غيرهم، إنما تأخذ من الحيادية أو العلمية لصالح الهدف الموجه أو لصالح النعرة الضيقة. فيماني تضع حتى الممارسات الخرافية في موضع الحفاوة كشكل من الرهافة الحضارية لمجرد كونها متبناة من قبل العوائل الحجازية، فاجراءات كالحماية من العين الحاسدة مثلا تجيء في فصل (التعلق بفنون اللباقات الاجتماعية)! ثم إن ماتسميه بالروحانيات كالتصوف قد لايكون عند غيرها أكثر من دروشة وتغييب للعقل وبذات سوء ما تنعته بالتزمت الديني النجدي. إنها النعرة أيضا التي تجعل الأشراف الذين حكموا الحجاز محاطين بهالة رومانتيكية فهم: "يفضلون نمط العيش المتفتح ويتقنون لغات عديدة ويتبعون الطرق الصوفية ويستمتعون بأنماط موسيقية مختلفة". مع ذلك فالتاريخ لاينسى أحدا، فالتصوف والموسيقى لم يمنعا الأشراف من ممارسة السياسية بكل فضائلها وموبقاتها وموازناتها وإرغاماتها شأنهم في ذلك شأن سواهم، فالسياسة هي السياسة في أي زمان ومكان، لكن سياق يماني ليس هذا طالما هي مأخوذة باستمرار بمسألة الهوية المتفوقة المقصاة والهوية الأدنى المتغلبة، محصية حتى حكايا النساء، فالحجازية إذا قابلت صاحبتها تسألها: "أوحشتك يا فلانة"؟ فتأتيها الاجابة أكثر نعومة، ثم يأتي صوت يماني الجهوري مُعقبا ليشد آذان النجديات ورجالهن: "الحجازيون يتميزون بهذا الأسلوب المنمق عن النجديين الأكثر خشونة والأقل تعبيرا عن مشاعرهم".
تفطن يماني إلى تمايز المجتمع الحجازي بين حاضرة وبادية ونخبة وعامة ..الخ بينما نجدها تُحيل على النجديين باستمرار بوصفهم وحدة واحدة، خالطة بين عامة الناس الذين لا علاقة لهم بالوقائع التاريخية والسياسية وبين النخبة صانعة القرار، ربما لتصب غضبها مرة واحدة وتستريح، كما تحيل على المجتمع النجدي بوصفه وحدة متجانسة اجتماعيا وثقافيا، رغم ان هذا التقدير إن كان صحيحا قبل خمسين عاما فإن عوامل كالسكنى في المدن والتعليم والسفر قد أضفت تنويعات داخل نسيج هذا المجتمع بشكل لايستقيم معه التعميم، خاصة ونحن في سياق علمي لا في جلسة دردشة غير منضبطة، كما أننا بصدد طقوس اجتماعية وثقافية كطرائق الطبخ والأكل والكلام والترفية واستقبال المواليد ومجالس العزاء، وهذه كلها عرضة بالمثاقفة لتحولات دراماتيكية مستمرة لأنها لاتمس عمق البنية الثقافية ومن ثم فهي لا تستثير مقاومة شديدة في وجه التغيير. فلو سلمتُ مثلا ليماني بأن المظاهر الباذخة في استقبال المواليد وحفلات الزفاف أحد التمثلات الحضارية المرهفة للهوية الحجازية، فإنني سأعتقد بأنها لم تخالط النجديين منذ زمن، فقد صاروا يعكسون رهافة بهذا المعنى تضاهي رهافتهم.
إن حديث الهوية بالشكل العقائدي والمسيس الذي تتبناه يماني لايساهم في شرعنة ثقافة الآخر المختلف كأحد أهم مطالب الحياة الحديثة، ولا أظنه يساعد في حل الاشكالية التي تراها يماني، لكن الأهم من ذلك هو أن هذا الخطاب يتحول من آداة لتعزيز التنوع الثقافي إلى وسيلة لشحذ العنصريات والإقليميات، فكأنه في حقيقته ينقض جوهره الحداثي المفترض. ففي سجال آخر لشجاع المطرفي ومحمود عبدالغني صباغ على سبيل المثال ستسمع بالهوية المكية أو هوية حاضرة مكة مقابل باديتها، فالنجدي ليس هو الطرف المقابل هذه المرة لأن السجال يدور في هوية فرعية (مكية) داخل الهوية الفرعية الأكبر (الحجازية) فيكون الأقربون أولى بـ (المعروف)، أو من: "جاور حاضرة مكة ولم يسهم في تكوين شخصية وهوية مكة ثم يدعي أنه الأحق بتمثيلها".
من جهة ثانية فإن يماني في تشديدها على هوية حجازية نقية ثابتة تجاهد المؤثرات النجدية إنما هي تغفل أن أي هوية ليست كينونة أو نسقا مقفلا بل هي بطبيعتها متحركة ومُشرعة على التفاعل مع الروافد الثقافية الخارجية التي تشكلها الهويات الأخرى، فالهوية الحجازية مهما برعت يماني في تصوير فرادتها وخصوصيتها هي في المحصلة امتزاج هويات فرعية مصرية وبخارية وهندية وافريقية وتركية ومغاربية إلى جانب هوية سكان الحجاز الأصليين.
لطيفة الشعلان
أخيرا..
رغم أن جذوري ضاربة في اعماق الحجاز قدم التاريخ..إلا ان الهوية التي حاولت رسمها مي يماني..هي هوية لا تعنيني..هوية مشوهة عنصرية سطحية هشة ...
أغفلت الهوية الحقة..القائمة على التسامح وتقبل الآخر وخلقت هوية جديدة..قائمة على الإحساس بالفوقية..
بعد انهائي للكتاب..